بعد مرور 11 يومًا على احتجاز تشيشيليا سالا، الصحافية الإيطالية في إيران، واستمرار صمت السلطة القضائية بشأنها، أصدرت وزارة الثقافة والإرشاد بيانًا أعلنت فيه أن سالا تم احتجازها بتهمة "انتهاك القوانين الإيرانية"، فيما اكتفى المسؤولون الإيطاليون بالقول إن قضية هذه الصحافية معقدة.

دخلت تشيشيليا سالا إلى إيران في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2023 بتأشيرة صحافية من أجل رحلة لمدة أسبوع، وكان من المفترض أن تغادر البلاد في 21 ديسمبر. الصحافية الإيطالية التي تنتج بودكاست شهير باسم "القصص" لشركة كورا ميديا وتعاونت مع صحيفة "إيل فوغليو"، قامت بتسجيل ونشر ثلاث حلقات من البودكاست حتى يوم 18 ديسمبر.

تُسجل وتُنشر حلقات بودكاست سالا بشكل يومي، لكن صباح يوم الخميس 19 ديسمبر، وبعد تبادل بعض الرسائل بينها وبين زملائها في روما، تم إيقاف هاتفها ولم يتم إرسال حلقتها اليومية للنشر. استمر غموض مصيرها حتى مساء يوم الجمعة، عندما أجرت اتصالًا قصيرًا مع والدتها وأبلغتها بأنها تم احتجازها ونقلها إلى السجن.

تقارير سالا عن قمع احتجاجات نوفمبر 2019

هذه الصحافية الإيطالية التي زارت إيران عدة مرات، أصبحت مهتمة بإيران خلال احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وفي 8 ديسمبر 2019، نشرت تقريرًا عن القمع الدموي لتلك الاحتجاجات في مجلة "فانتي فير" الإيطالية.

كان نشر هذا التقرير بداية لكتاباتها وحديثها عن تطورات إيران في وسائل الإعلام الإيطالية. على سبيل المثال، في 14 يناير (كانون الثاني) 2020، كانت ضيفة في إحدى وسائل الإعلام الإيطالية على "يوتيوب" باسم "وينتي" للحديث عن إيران.

السفر إلى إيران لتغطية مقتل سليماني وحتى انتخابات 2021

قبل هذا التقرير، كانت قد بدأت بالتقارير الصحافية حول التحولات الاجتماعية في البلدان التي تشهد احتجاجات، مثل شيلي وفنزويلا. وفي 8 فبراير (شباط) 2020، سافرت لأول مرة إلى إيران لتوثيق ما وصفته بـ"الوضع بعد اغتيال قاسم سليماني وقبل انتشار جائحة كوفيد-19 في إيران"، وفقًا لتصريحاتها.

بعد 15 شهرًا، سافرت مرة أخرى في 15 يونيو (حزيران) 2021 لتغطية الانتخابات الرئاسية، وخلال هذه الرحلة، التقت بكل من محمود أحمدي نجاد ومعصومة ابتكار وأجرت معهما مقابلات.

بعد عودتها من إيران، نشرت سالا تقريرًا في صحيفة "إيل فوغليو" تتحدث فيه عما شاهدته خلال الانتخابات الرئاسية الإيرانية. في هذا التقرير، كما كتبت، تتحدث عن مجموعة متنوعة من مشاهداتها: "هناك إصلاحيون لا يستطيعون فعل شيء، قمت بزيارة الطلاب في شمال طهران، كما قابلت أحمدي نجاد."

تتابع حديثها عن مشاهداتها في مشهد، وتصف هذه المدينة قائلة: "نصل إلى مشهد، العاصمة المخفية، مدينة الرؤساء. هناك حيث ينحدر كل من إبراهيم رئيسي، الرئيس المنتخب، وخامنئي، مرشد النظام. مدينة ذات قصة مختلفة تمامًا، وهي نقطة انطلاق القوة في إيران."

مع بدء جائحة "كوفيد-19"، تم تقليص سفرات هذه الصحافية إلى بلدان أخرى، لكنها استمرت في الحديث عن إيران في وسائل الإعلام الإيطالية ونشر صور من آخر زياراتها إلى إيران.

سافرت سالا إلى أفغانستان في وقت سقوط كابول واحتلالها مجددًا على يد طالبان، وبعد بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا، سافرت عدة مرات إلى هذا البلد أيضًا. تقاريرها عن هذين البلدين المنكوبين بالحروب جعلتها أكثر شهرة في إيطاليا.

الحلقات الأخيرة من طهران: من محور المقاومة إلى معارضة الحجاب الإجباري

في آخر رحلة لها إلى طهران في ديسمبر من هذا العام، قبل احتجازها، قامت سالا بتسجيل ونشر ثلاث حلقات من بودكاست "القصص" في طهران. وعند وصولها، نشرت صورة لطهران المليئة بالدخان على حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، وكتبت: "طهران، اشتقت لك.. حتى لدخانك". في الحلقة الأولى، توجهت إلى حسين کنعاني مقدم، أحد القادة المتقاعدين في الحرس الثوري.

في بداية هذه الحلقة التي نُشرت يوم الأحد 16 ديسمبر بعنوان "ألبوم العائلة لمحور المقاومة"، كتبت: "لقد عدت إلى منزل کنعانی، أحد مؤسسي الحرس الثوري، حيث تروي الصور من حياته نصف قرن من العمليات الإيرانية في الشرق الأوسط."

ثم تتابع سالا في هذه الحلقة، وهي تتتبع صور کنعانی، مشيرة إلى الحرس الثوري في بيروت وأفغانستان والعراق، وبعد الحديث عن تعاون فيلق القدس التابع للحرس مع الولايات المتحدة خلال غزو أفغانستان، وموضحة تشكيل محور المقاومة من حزب الله وحماس وصولًا إلى الحوثيين والحشد الشعبي، كتبت: "في الأشهر الـ14 الماضية، تم تفكيك هذا المحور تقريبًا جزءًا جزءًا، وغالبية أصدقاء کنعانی في هذه الصور قد توفوا."

في الفيديو الذي نشرته بعد يوم من إصدار هذه الحلقة من البودكاست، تحدثت سالا عن النساء اللواتي تخلين عن الحجاب الإجباري ولا يكترثن لـ"القوانين الصارمة للملابس في الجمهورية الإسلامية": "الكثير من النساء في إيران لم يعدن يلتزمن بالحجاب الإجباري، ويبدو أنهن لا يخشين العواقب مثل التصوير من قبل الأجانب أو التعرف عليهن من خلال الكاميرات الذكية الصينية التي تم تركيبها في الشوارع، والتي قد ترسل صورهن إلى الشرطة."

في الحلقة الثانية، بعنوان "محادثة عن الأبوة في طهران"، توجهت إلى شابة تُدعى ديبا تبلغ من العمر 21 عامًا، وكتبت أنها امرأة مستقلة، و"تروي لنا كيف تغيرت إيران للنساء مثلها؛ من القانون الجديد للحجاب والعفاف إلى الأزمة الاقتصادية التي تتحدى طموحات الاستقلال للكثيرات، وأيضًا أول قصف إسرائيلي على طهران."

أما في الحلقة الثالثة التي نُشرت يوم 18 ديسمبر بعنوان "هي لطيفة لدرجة أن إنستغرام سحب منها حسابها؛ قصص من كوميديا طهران"، فقد أجرت حديثًا مع زينب موسوي، المعروفة بـ"إمبراطورة كوزكو"، الكوميدية الإيرانية على الإنترنت. وقدمت سالا موسوي قائلة: "هي أشهر كوميدية ستاند أب في إيران. تم احتجازها بسبب تصريحات قالتها على لسان إحدى شخصياتها في أحد عروضها على الإنترنت، ومنذ ذلك الحين جمعت العديد من النكات الطريفة عن حياتها في السجن. وتضحك أيضًا على الأيام التي قضتها في الحبس الانفرادي، وتقول إن كل شيء مضحك."

الاعتقال والحبس الانفرادي في طهران

كما أعلن سفير إيطاليا في طهران، فإن تشيشيليا سالا، الآن في الحبس الانفرادي في سجن إيفين، في إحدى الزنازين التي وصفتها زينب موسوي، وهي الآن رهن الاحتجاز، لكن خبر اعتقالها لم يُعلن إلا بعد مرور أسبوع من وقوعه.

ووفقًا لتقرير شركة "كورا ميديا" الإعلامية، خلال الأيام العشرة التي مضت منذ اعتقالها، تحدثت سالا مرتين مع والديها عبر الهاتف، وفي إحدى المكالمات أخبرتهم أنها "بخير، لكن أسرعوا"، وهو إشعار صريح بأنها تريد منهم أن يسرعوا في جهودهم للإفراج عنها.

في ذات الوقت، وبحسب الأخبار المتداولة، على الرغم من مرور أسبوع على اعتقال سالا، إلا أنه لم يتم توجيه أي تهم لها، ولا يزال من غير الواضح سبب احتجازها.

وفي بيان نشرته صحيفة "إيل فوغليو"، التي تعمل معها سالا، جاء أن الصحيفة قد تأخرت في نشر خبر اعتقالها لمدة أسبوع، موضحة: "نحن الآن ننشر هذا الخبر المؤلم لأن السلطات الإيطالية ووالدي تشيشيليا طلبوا منا الصمت على أمل أن يؤدي ذلك إلى إطلاق سراحها، لكن للأسف، لم يحدث ذلك بعد."

وأكدت جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، أن الحكومة الإيطالية ستبذل قصارى جهدها من أجل إطلاق سراح سالا "في أسرع وقت ممكن"، وقالت: "هذه القضية معقدة، ولكننا سنستخدم جميع سبل الحوار الممكنة من أجل الإفراج عن سالا."

من غير الواضح ما الذي تعنيه رئيسة وزراء إيطاليا من "تعقيد هذه القضية"، ولكن احتجاز المواطنين الأجانب أو مزدوجي الجنسية، بما في ذلك الصحافيين، في إيران كان دائمًا موضوعًا مثيرًا للجدل وأدى إلى ردود فعل دولية واسعة.

تشير سوابق هذه الاعتقالات إلى أن النظام الإيراني يستخدم هؤلاء الأشخاص كوسيلة للضغط السياسي على حكوماتهم، ويستفيد منهم في عمليات تبادل مع معتقلين أو سجناء مرتبطين بالنظام في تلك البلدان.

سياسة إيران باحتجاز الرهائن

يقول العديد من الخبراء السياسيين وحقوق الإنسان إن النظام الإيراني، من خلال تقديم اتهامات لا أساس لها وبدون تقديم أي أدلة، في الواقع يأخذ هؤلاء المواطنين كرهائن.

وفي هذا السياق، أشارت شيرين عبادي، رئيسة مركز المدافعين عن حقوق الإنسان والحائزة على جائزة نوبل للسلام، إلى احتجاز تشيشيليا سالا قائلة: "إذا لم يحدث تغيير جذري في سلوك الدول الغربية تجاه الجمهورية الإسلامية، فلن تكون السيدة سالا آخر رهينة."

أما كايلي مور غيلبرت، الباحثة الأسترالية التي كانت محتجزة في إيران لمدة تقارب 30 شهرًا وتم إطلاق سراحها في ديسمبر 2020 في صفقة تبادل مع ثلاثة عملاء إيرانيين مسجونين في تايلاند، فقد أشارت إلى اعتقال أحد العملاء الإيرانيين في إيطاليا وكتبت: "احتجاز الرهائن من قبل النظام الإيراني يحدث كل مرة بشكل أكثر وضوحًا ووقاحة... تشيشيليا هي آخر ضحية للدبلوماسية الوقحة في احتجاز الرهائن من قبل إيران. الحرس الثوري ذهب للبحث عن الإيطاليين، ووجدها."

محمد عابديني نجف ‌آبادي الذي تشير إليه غيلبرت في كتاباتها، تم اعتقاله قبل ثلاثة أيام من اعتقال سالا في طهران، في مطار ميلانو بإيطاليا بناءً على طلب من الولايات المتحدة من أجل تسليمه إلى هناك.

يُتهم عابديني في قضية مشتركة مع شخص آخر يُدعى محمد مهدی صادقي بتجاوز قوانين مراقبة الصادرات الأميركية والتعاون مع الحرس الثوري الإيراني وتصدير التكنولوجيا المستخدمة في الصناعات العسكرية للطائرات المسيرة الإيرانية.

وأعلنت وزارة العدل الأميركية في بيان أن التهم الموجهة إلى الاثنين مرتبطة بهجوم بالطائرات المسيرة في الأردن وقع في 28 يناير 2024، أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة أكثر من 40 جنديًا آخر.

وفي نفس السياق، كتبت هانا نويمان، عضو البرلمان الأوروبي من ألمانيا، على شبكة "إكس" مشيرة إلى سياسة احتجاز الرهائن التي يتبعها النظام الإيراني: "مرة أخرى، احتجزت السلطات الإيرانية شخصًا كرهينة، وهذه هجمة جديدة على حرية الإعلام، وعلى النساء، وعلى القوانين الدولية."

ردود الفعل الإعلامية والمنظمات الدولية

قامت منظمة "مراسلون بلا حدود" والاتحاد الدولي للصحافيين بنشر بيانات تُدين اعتقال سالا وتعتبره "تعسفيًا"، محذرة من أن الهدف من هذه "الاحتجازات" هو "ابتزاز" الدول الغربية.
وقال أنطوني بلانجر، الأمين العام للاتحاد الدولي للصحافيين: "نحن نأسف لأساليب الحكومة الإيرانية في اعتقال الصحافيين الأجانب بهدف مبادلتهم بشيء تريده الحكومة. تشيشيليا سالا هي أحدث ضحية لهذا السلوك الوحشي."

صحيفة "التايمز" اللندنية، في تقرير لها حول اعتقال عابديني في إيطاليا، أشارت إلى أن الإفراج عن سالا مرتبط بمصير عابديني. وقال نيكولا بيدي، رئيس مركز الدراسات العالمية في روما، في حديث مع الصحيفة إن "السبب الرئيسي على الأرجح لاعتقال سالا هو اعتقال عابديني في إيطاليا. لقد زادت بشكل كبير في السنوات الخمس الماضية عملية احتجاز الأجانب في إيران كوسيلة لضمان حرية الإيرانيين الذين تم اعتقالهم في الخارج."

أما صحيفة "وول ستريت جورنال"، فقد أشارت إلى اعتقال سالا وكتبت أن هذه الخطوة من طهران "تُظهر أن المسؤولين الإيرانيين يعتزمون استخدام سالا كأداة ضغط في محادثاتهم مع الغرب.

إيران تتصدر العالم في الاعتقال التعسفي للمواطنين الأجانب واستخدامهم كأداة للمساومة والحصول على مكاسب."

وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أيضًا، في إشارتها إلى تاريخ اعتقال الصحافيين في إيران، إن اعتقال الصحافيين الأجانب "يعد جزءًا من سياسة الحكومة الإيرانية للضغط على الدول الأخرى، بما في ذلك استخدامهم في عمليات تبادل الأسرى."

كما أشارت الصحيفة إلى أن تشيشيليا سالا ليست أول صحافية أجنبية أو ذات جنسية مزدوجة يتم اعتقالها من قبل إيران بسبب عملها الصحافي في إيران.

ومن بين الصحافيين الذين تم اعتقالهم، ومحاكمتهم وسجنهم في السنوات الماضية بسبب عملهم الصحافي في إيران: روكسانا صابري، صحافية إذاعة "راديو أميركا الوطنية"، وجيسون رضائيان، صحافي "واشنطن بوست"، وراجير كوبر، صحافي بريطاني مستقل، وجيرالد سب، صحافي "وول ستريت جورنال"، ومازيار بهاري، صحافي "نيوزويك"، والذين تم إطلاق سراحهم بعد فترة من الزمن في إطار عمليات تبادل مع سجناء من إيران في أميركا أو أوروبا.

مزيد من الأخبار