نشر القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، فرانك ماكنزي، مذكراته، مؤخرًا، بعنوان "نقطة الانصهار.. القيادة العليا والحرب في القرن الحادي والعشرين"، وقد خصص فيه فصلًا كاملًا لقاسم سليماني، وتفاصيل الهجوم على موكبه في مطار بغداد.
وكتب فرانك ماكنزي، الذي كان مسؤولًا عن القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط (سنتكوم) من أوائل ربيع 2019 إلى منتصف ربيع 2022، في مذكراته، أنه اعتبر دائمًا قاسم سليماني عنصرًا خطيرًا على مصالح الولايات المتحدة، وأن تصفيته كانت جزءًا مهمًا من مسؤوليته في العمل.
وأشار إلى أن أحد أهم الأسئلة التي طرحها على كبار المسؤولين فور توليه منصب قائد القيادة المركزية الأميركية هو ما إذا كانت تصفية قاسم سليماني مدرجة على جدول الأعمال أم لا، مضيفًا: "الإجابة التي حصلت عليها لم تكن مُرضية".
وقال "ماكنزي" إن القيادة الأميركية خلال الأعوام 2010 إلى 2012، والتي كانت تحت قيادة الجنرال ماتيس، سعت إلى إقامة قناة اتصال عسكرية مباشرة مع إيران، رغم مراقبة أنشطة قاسم سليماني في المنطقة ومعرفة الدور الذي يلعبه في العراق وسوريا وحتى اليمن.
واعترف "ماكنزي"، في مذكراته، بأنه خلال هذه الفترة، وحتى في السنوات التالية، كان يفكر في سيناريوهات مختلفة لتصفية سليماني، وناقش العواقب المحتملة لمثل هذا الإجراء مع كبار القادة العسكريين الآخرين.
وذكر أنه بعد أن بدأ نشاطه كقائد في القيادة المركزية الأميركية، تكثف الهجوم على القواعد الأميركية في العراق، وبناءً على الاستنتاجات، كان من الواضح أن سليماني يوجه هذه الهجمات من خلال شبكة واسعة من الميليشيات الشيعية المتطرفة.
وبحسب قول هذا الجنرال المتقاعد، فإن الهجوم على قاسم سليماني تم بسبب هجوم الميليشيات التابعة لإيران على قاعدة K-1 الجوية في 27 ديسمبر 2019 في محافظة كركوك بالعراق.
وقد قُتل في الهجوم مقاول مدني أميركي، وأصيب أربعة من أفراد الخدمة العسكرية الأميركية واثنين من أفراد الشرطة الفيدرالية العراقية.
ويؤكد ماكنزي، في مذكراته، أن انطباعهم كان أن هذا الهجوم، على عكس العمليات السابقة التي تم تنفيذها بهدف الإيذاء أو التحذير، لم يكن له غرض آخر سوى إحداث خسائر كبيرة وإلحاق أضرار بالمصالح الأميركية، ومِن ثمّ تم هذا الهجوم في منطقة مليئة بالناس والمرافق. وكان ماكنزي على يقين من أن الرد على هذه العملية جزء لا يتجزأ من مسؤوليته.
وفيما يتعلق بالخيارات، التي قدمها قادة الجيش الأميركي في مقر القيادة المركزية الأميركية في تامبا بولاية فلوريدا، أكد "ماكنزي" أن الغرض من العملية الانتقامية هو إظهار القوة لجماعة كتائب حزب الله المسلحة، التي كانت تُدار مباشرة تحت قيادة قاسم سليماني.
وصوّر مؤلف هذه المذكرات يوم اتخاذ القرار، بأنه يوم سبت مشمس، وكتب أنه والضباط العسكريين الآخرين المسؤولين، "جلسوا في حالة من الإثارة بشأن مجموعة واسعة من الخيارات التي تم النظر فيها لعدة أشهر... وبعد نقاش ومداولة جميع الخيارات، قررنا تنفيذ العملية وإطلاق النار على أهداف داخل العراق وسوريا لمنع اتساع نطاق الصراع".
وأشار ماكنزي، في وصفه لسير مثل هذه العملية في مذكراته، إلى أنه تم إرسال المقترحات إلى دونالد ترامب من خلال وزير الدفاع، مارك إسبر، للسماح بضربة انتقامية، وفقًا لتقديره.
وكتب: "... بما أنني كنت أعرف مدى ازدحام الاجتماعات والصخب في مثل هذه المسائل، فقد قدمت أيضًا اقتراحات إضافية، بما في ذلك استهداف أربعة مواقع للدعم مرتبطة بكتائب حزب الله وثلاث شخصيات حقيقية متورطة في هذا الهجوم. اثنان من هذه الشخصيات كانا من رجال الأعمال في كتائب حزب الله، والشخص الثالث هو سليماني نفسه، الذي كان العقل المدبر لهذا الهجوم. وتمت إضافة أهداف في البحر الأحمر إلى هذه الخطة، وكذلك الهجوم على البنية التحتية للدفاع الجوي والنفطي في جنوب إيران، بما في ذلك استهداف سفينة ساويز، وهي ساحبة يبلغ وزنها 14000 طن حوّلها الحرس إلى سفينة حربية، وكانت تزعجنا منذ فترة طويلة في البحر الأحمر".
ويضيف ماكنزي: "كنت أعلم جيدًا أن ترامب حساس تجاه سليماني، ويمكن إثارته في هذا الشأن. وأوضحت بالتفصيل الآثار الإيجابية التي ستترتب على تصفيته، ومدى صعوبة غيابه على صُنّاع القرار في إيران، وشرحت أيضًا عواقب هذا الهجوم وردود الفعل المحتملة لإيران".
وذكر ماكنزي بوضوح أنه كان قلقًا للغاية بشأن كيفية رد إيران، لأن الرد الإيراني القوي كان من الممكن أن يؤدي إلى حرب واسعة النطاق، وكان لدى طهران ووكلائها العديد من الخيارات لإيذاء الولايات المتحدة، قائلًا: "كنت أعلم أن هذا الإجراء كان من الممكن أن يكون له تأثير رادع قوي".
وكتب أيضًا: "بعد ظهر يوم الأحد، تعرضت مواقع كتائب حزب الله للهجوم، وتم استهداف خمس قواعد في سوريا والعراق، كما تم الهجوم على مركز للدعم والاجتماعات، وتمت تصفية عدد من القادة الرئيسين في هذه المجموعة المسلحة. وقد وصل تقرير العملية إلى ترامب الذي كان في مقر إقامته في مارالاغو بفلوريدا.. اشتكى ترامب وأبدى استياءه من أن العملية غير كافية.. وأصر ترامب على أنه يريد استهداف سليماني".
وقال إنه "اتصل به الجنرال ميلي في تلك الليلة، وقال له إن ترامب أمر بأنه إذا ذهب سليماني إلى العراق، فيجب أن نستهدفه".
وأكد أنه كان في مكتبه بمنزله مع قادة آخرين في القيادة المركزية، وقت هذه المحادثة، مضيفًا: تجمدت لثانية أو ثانيتين، ثم طلبت منه أن يكرر ما قاله. سمعت بشكل صحيح.. لم يكن الهاتف على مكبر الصوت، لذلك لم يسمع أي منهم الأمر المقصود".
وأضاف أن الجنرال ميلي أخبره بأنه تمت الموافقة أيضًا على استهداف قائد فيلق القدس في اليمن (على الأرجح شهلائي، على الرغم من ذكر حسن إيرلو في جزء آخر من الكتاب)، والهجوم على سفينة الحرس الثوري الإيراني "ساويز" في البحر الأحمر.
وأشار القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية إلى أن فريقه العملياتي كان يركز على خطط مهاجمة سليماني في كل من سوريا والعراق لفترة طويلة، مؤكدًا أنه كان على استعداد لتنفيذ هذه العملية في سوريا، لأن تقديرات الجنرال المتقاعد، فرانك ماكنزي، هي أن العملية ضد سليماني في العراق ستؤدي إلى خطر رد فعل عسكري وسياسي من الميليشيات الشيعية.
وأضاف ماكنزي: "كان واضحًا لنا أن سليماني سيهبط في مطار بغداد الدولي، ويغادره سريعًا بالسيارة... وثبت لنا أن الهجوم على سليماني بعد لحظات من نزوله من المحتمل أن يقلل من الأضرار الجانبية... تم اختيار طائرات مسيرة من طراز MQ-9 مزودة بنظام صواريخ هيلفاير... قمنا بتقليص الوقت المخصص لهم للتحليق فوق مطار بغداد حسب معرفتنا بالوقت التقريبي لوصوله، وبعد نقاشات عديدة قررنا استهداف سليماني، وقائد فيلق القدس في اليمن في الوقت نفسه، بينما الهجوم على السفينة ساويز تم تأجيله إلى وقت آخر... أنا شخصيًا لم أكن أرغب في إغراق هذه السفينة. أردنا أن نكون قادرين على تحذير طاقم السفينة لمغادرتها قبل الهجوم، ولكن ماذا لو امتنعوا عن المغادرة؟ لم أرغب في أن يكون لي دور في القيام بمشروع آخر لصنع الشهداء".
وتابع أنه في أعقاب الهجمات على منشآت وأعضاء كتائب حزب الله، اندلعت احتجاجات في بغداد وبالقرب من السفارة الأميركية.
وذكر ماكنزي بوضوح أن مخاوفه كانت من احتمال وقوع حادث آخر مشابه للهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي بليبيا، وكشف عن حواره الداخلي وشكوكه: "كنت قلقًا بشأن ما سيحدث بعد الهجوم على سليماني، هل ستهاجم الجماهير المحتجة السفارة وتحتلها؟ وكيف ستتغير علاقتنا مع الحكومة العراقية؟".
ويروي ماكنزي كيف تمت متابعة سليماني بعناية، حيث كتب أن "سليماني غادر منزله صباح 31 ديسمبر (كانون الأول) 2019 وتوجه إلى المطار... أقلعت طائرته من مطار طهران، ووصلت إلى بغداد بعد أقل من ساعتين، فيما لم تظهر أي علامة على انخفاض الارتفاع".
وتفاجأ بهذا الحادث قائد القيادة المركزية، ووزير الدفاع، ورئيس الأركان العامة، الذين كانوا في غرفة العمليات المشتركة الافتراضية، وللحظة، قرروا إسقاط الطائرة، التي تقل سليماني فوق العراق بطائرتين مقاتلتين، لكن ماكنزي، استذكر حادثة هجوم "الفينسينز" على طائرة الإيرباص الإيرانية، وأشار إلى أنه بافتراض وجود سليماني في هذه الطائرة ووفاته، فمن الأفضل تجنب هذا العمل.
وتحدث ماكنزي عن إلغاء العملية في ذلك المساء، لكنه أضاف أنه في الأيام الثلاثة الأولى من عام 2020 كانت كل الأنظار متجهة إلى دمشق لعودة سليماني: "طائرة سليماني غادرت دمشق متوجهة إلى بغداد متأخرة.. تابعنا الطائرة على الشاشة حتى هبطت في مطار بغداد.. منذ تلك اللحظة تابعنا الصور عبر كاميرا الطائرة المُسيّرة.. التصق الدرج بالطائرة وفتح الباب... تمكنا من التأكد من هوية سليماني... تم اصطحاب سليماني إلى سيارتين رباعيتين ثم ركب إحداهما... تحركت السيارات بسرعة إلى المدرج. لم يتحدث أحد".
ووصف ماكنزي، الخطوات المختلفة لهذه العملية بالتفصيل في هذا الفصل من الكتاب: "فجأة، اجتاح وميض أبيض ضخم الشاشة بأكملها. وتناثرت أجزاء سيارة سليماني في زوايا الصورة... كما تم استهداف السيارة الثانية وانفجرت... لم يكن هناك هتاف ولا تشجيع... الكل كان يشاهد فقط في صمت...".
وأشار ماكنزي، إلى العملية الثانية في اليمن، قائلًا: "تم تنفيذ هجوم مماثل بطائرة مُسيّرة على منزل كان من المفترض أن يكون فيه قائد قوة القدس في اليمن".
وأضاف ماكنزي، أنه على الرغم من أن توقيت الهجومين بفارق 13 دقيقة كان إنجازًا كبيرًا، فإن العملية الثانية لم تنجح.
وبحسب قول القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، فإن استهداف سليماني كان قرارًا صائبًا جدًا من ترامب، وأنقذ حياة العديد من الأميركيين، وأظهر نوعًا من الإصرار الأميركي بعد فترة طويلة.
وناقش ماكنزي، في جزء آخر من كتابه، عواقب هذا الحادث، والهجوم على قاعدة عين الأسد، وكذلك إسقاط الحرس الثوري الإيراني للرحلة PS 752 ومقتل 176 راكبًا وطاقمًا، وذكر أن هذا الاستعراض للقوة من قِبل واشنطن دفع طهران إلى إعادة النظر في سياستها بالمنطقة.
وخلص المؤلف، في جزء آخر من كتابه، إلى أنه على الرغم من الادعاء بأن إيران حاولت استهداف بعض السياسيين المشاركين في هذا القرار، بمن في ذلك جون بولتون، مستشار الأمن القومي، ومايك بومبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة، آنذاك، وكذلك المؤلف نفسه، لكن تهديداتها ظلت خطابية، و"تسببت عمليًا في تغيير الإيرانيين خطتهم، والتوقف عن شن هجمات مباشرة كبيرة ضد القوات الأميركية".