منذ اليوم الأول لمقتل إسماعيل هنية في طهران، والسلطات العسكرية والسياسية والقضائية والدينية الإيرانية تؤكد باستمرار "الرد المدمر على انتهاك السيادة في اغتيال الضيف"، و"الثأر"، و"الرد بقوة وحزم"، و"الانتقام الدموي"، و"الانتقام الصعب"، و"الوعد الصادق".

وظل الإيرانيون والمراقبون الدوليون ينتظرون هذا الرد، ولكن على الرغم من التحذيرات المتكررة للرحلات الجوية الدولية لتجنب سماء غرب إيران والاتصالات المتكررة مع الدول المجاورة والقوى العالمية، فقد طال أمد هذا الرد وتأخر طويلًا، لدرجة أن الكثيرين باتوا يعتقدون أنه قد لا يكون هناك أي رد من طهران على الإطلاق.

وسيكون الانتقام والثأر فعالين في الرأي العام المحلي والدولي، عندما لا تكون هناك مسافة زمنية طويلة تفصل عن الحدث المنشود للانتقام.

لكن لماذا تتردد سلطات الجمهورية الإسلامية في الانتقام والثأر؟ إلى متى يمكنهم تأخيره؟ وما العوامل التي جعلت السلطات تؤجل اتخاذ القرار؟

يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة من ثلاث زوايا: السياسة الداخلية، والدبلوماسية الدولية والإقليمية، وبنية النظام، ونستعرض كلاً منها كما يلي:

السياسة الداخلية

في مجال السياسة الداخلية، كانت وما زالت هناك قضية واحدة في صدارة أولويات النظام، وهي:

بقاؤه من خلال منع الاحتجاجات الشعبية الواسعة، وإظهار القوة والسلطة.

ويعود التأخير في الرد من هذا المنظور إلى ثلاثة مخاوف:

أولاً: الوقوع في فخ بنيامين نتنياهو لسحب الحرب مع إسرائيل إلى داخل إيران، وتعرض البنية التحتية للخدمات في البلاد، مثل الكهرباء والغاز والوقود أو المنشآت الصاروخية والنووية لضربات خطيرة؛ حيث يعرف المسؤولون في إيران أن ضغط عمليات القمع الداخلي والصعوبات الااقتصادية الحالية سيؤدي إلى انفجار غضب المواطنين في طوابير البنزين أو انقطاع الكهرباء لفترات طويلة.

ثانيًا: الانتباه إلى أن النظام سيضعف، وتتعزز حركة الإطاحة به في حرب لا يلعب فيها المواطنون دورًا، ولا يريدون أن يلعبوا دورًا.

ثالثًا: الدخول في حرب أوسع يؤدي إلى تشكيل وتعزيز حركة السلام في البلاد، التي يتجنبها النظام لاستمرار طموحاته التوسعية في المنطقة. وللأسف، في الظروف الحالية لا توجد مثل هذه الحركة في البلاد.

الاختلاف في الهيكل العسكري- الأمني للنظام

بعد سقوط مروحية الرئيس الإإيراني السابق، براهيم رئيسي، وعدم كفاءة حكومته في الوفاء بالوعود وإدارة أمور البلاد، توصل علي خامنئي إلى نتيجة مفادها أن جزءًا من القدرة الإدارية للإصلاحيين يجب أن يعود إلى هيكل الحكومة، وتم تأكيد صلاحية مسعود بزشکیان في مجلس صيانة الدستور من هذا المنطلق.

والإصلاحيون لا يوافقون على خلق المزيد من التوتر مع أميركا وإسرائيل، ولكن بزشكيان ليست لديه القدرة على المعارضة الجدية لمثيري الحرب في مجلس الأمن القومي، كما أنه ليس لديه تاريخ مثل حسن روحاني في الأجهزة الأمنية، مقابل خامنئي والحرس الثوري، ولأ أصوات كافية مثل محمد خاتمي، وبالطبع لم يكن لكل منهما تأثير كبير.

لكن مع وصول الإصلاحيين إلى السلطة، فإن الازدواجية في الحكم، التي كان يتجنبها المرشد، ستتشكل من جديد، ولا يريد خامنئي تأجيج التوترات الناجمة عن هذه الازدواجية بحرب واسعة النطاق في المنطقة. وينبغي لنا أن ننظر بعين الشك إلى الأخبار المتعلقة بمعارضة بزشكيان لسياسة الانتقام، التي ينتهجها خامنئي، في ظل عدم تشكيل حكومته بعد.

ومن المحتمل أيضًا أن يكون هناك خلاف جدي حتى بين كبار المسؤولين في المؤسسات العسكرية والأمنية وكبار صناع القرار حول نوع هذا العمل وتوقيته ونطاقه وأدواته العسكرية؛ مثل إطلاق الصواريخ من قبل النظام الإيراني، والهجوم بالطائرات المُسيّرة والصواريخ من قِبل الميليشيات التابعة لفيلق القدس، بشكل متزامن، أو منفصل، أوضبط النفس وعدم الهجوم.

كما تجدر الإشارة إلى أن خيارات الرد لدى النظام الإيراني محدودة؛ بسبب تركيزه على الطائرات المُسيُرة والصواريخ، وهي أصبحت أكثر محدودية، لأن إرسال أكثر من 300 طائرة لم يسفر سوى عن فضيحة، ولا يستطيع أيضًا استهداف القادة العسكريين.

كما أن التوسع الإضافي في الحرب يمكن أن يؤدي إلى إضعاف أو التضحية بالمزيد من الميليشيات التابعة لفيلق القدس، مثل حزب الله اللبناني. وهذه هي الكارثة التي تحل بحركة حماس الآن.

الدبلوماسية الإقليمية والدولية

ومن هذا المنطلق فإن تأخر رد إيران يمكن أن يكون سببه أربع مسائل:

أولاً: إطالة أمد التنسيق مع دول المنطقة لتجنب مآسٍ، مثل إسقاط الطائرة الأوكرانية.

ثانيًا: التفاوض مع الحكومات الإقليمية، مثل روسيا، على أساس دعوتها إلى توخي الحذر أو الحد من نطاق الهجوم، أو على أساس الحاجة إلى المساعدة اللوجستية أو المعلوماتية، أو على أساس الإقناع، مثل الاجتماع الاستثنائي للجنة التنفيذية لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاسلامي.

ثالثًا: حساب فوائد وخسائر الرد أو عدم الرد وفقًا لتحذيرات الحكومات الغربية.

رابعًا: الرضا باستبدال يحيى السنوار، الذي يعيش في أنفاق غزة، وهو أقل دبلوماسيًا، ويمكن لإيران أن تكون سعيدة بانتخابه زعيمًا سياسيًا إلى جانب القيادة العسكرية لحماس.

وسيكون القلق الأهم هنا هو نوع الرد الإسرائيلي على هذا الإجراء، والذي قد يؤدي إلى ترتيبات إقليمية جديدة مثل تشجيع الدول العربية على الانضمام إلى حلف إبراهيم (اتفاقيات السلام التي عُقِدت بين إسرائيل ودول عربية برعاية الولايات المتحدة).

وفي هذا الصراع، ستقف الدول العربية بالمنطقة في الجانب الذي سيظهر المزيد من القوة ويجلب الاستقرار، كما تتطلع الصين وروسيا أيضًا إلى الاستقرار في المنطقة.

لقد تدخل علي خامنئي سريعًا على خلفية انتشار أخبار الفساد الفلكي، وأمر أبواق النظام بـ "التوقف عن إثارتها"، لكن في هذا السياق، وبحسب النقاط المطروحة، يمكننا أن نفهم لماذا صدر على الأرجح أمر "بإطالة أمد السكوت عن الرد".

مزيد من الأخبار